الشخصية المعادية للمجتمع: قراءة تحليلية لدراسة د. محمد التومي

بينت الدراسة الميدانية التي أجراها الدكتور محمد التومي (2022)، أن العود الإجرامي لا يختزل في بعد قانوني أو ظرف اجتماعي سطحي، بل يعكس انهيارا معقدا على مستوى التوازن النفسي والاجتماعي للفرد، وصولا الى المجتمع باعتباره النواة الحاضنة لهذا الفرد

الشخصية المعادية للمجتمع؛ بين الاضطراب النفسي واختلال التماسك المجتمعي"شخصية النزيل العائد نموذجا"

قراءة تحليلية لدراسة ذ. محمد التومي استاذ علم النفس الاكلينكي بجامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء.

أمام تصاعد معدلات الجريمة والعود الإجرامي بالمغرب، تبرز الشخصية المعادية للمجتمع بوصفها أحد النماذج الضطربة الأكثر توافدا على جدران المؤسسات السجنية. لاجل ذلك بينت الدراسة الميدانية التي أجراها الدكتور محمد التومي (2022)، أن العود الإجرامي لا يختزل في بعد قانوني أو ظرف اجتماعي سطحي، بل يعكس انهيارا معقدا على مستوى التوازن النفسي والاجتماعي للفرد، وصولا الى المجتمع باعتباره النواة الحاضنة لهذا الفرد. فالنزيل العائد من ناحية هو فرد لا يختلف عن بقية الاخرين، سقط في دائرة الخطأ وعوقب وفق منظومة قوانين اجتماعية، وبالتالي فإن هذا التجاوز للمعايير والقيم الأخلاقية للمجتمع، تخلق لنا هذه الشخصية، هنا لسنا نتكلم عن شخصية المجرم المتمردة فقط، انما نحن امام نتاج سيرورات فاشلة في التنشئة، والاحتواء العاطفي، والتقدير الاجتماعي، وهو ما يستدعي مزيدا من الدراسات والابحاث التدخلية ذات أهداف متباينة.

- الجريمة كعرض بنيوي لاختلال نفسي-اجتماعي

تشير الدراسة إلى أن 42 من كل 1000 مغربي يحتمل أن يظهروا سمات الشخصية المعادية للمجتمع. وقد سجل المغرب سنة 2020 أكثر من 851 ألف قضية زجرية، مما يعكس تضخما في معدلات السلوك الإجرامي، ويتجاوز حدود الجريمة الظاهرة إلى نمط سلوكي مرضي.

في هذا السياق، لا تقرأ العودة المتكررة للسجن كفشل شخصي أو انحراف لحظي، بل كعرض لبنية داخلية مختلة، تتسم بالاندفاع، غياب الضمير الأخلاقي، تكرار الكذب والخداع، انعدام الشعور بالذنب واستغلال الآخر.

وفقا ل DSM-5، فإن تشخيص اضطراب الشخصية المعادية يستلزم توافر سلوكيات عدوانية مستمرة منذ ما قبل سن الخامسة عشرة، حيث تشمل: العنف الجسدي، التعدي على الآخرين، الاستغلال، الكذب المزمن، والاندفاعية المدمرة.

- السجن كبديل مشوه للعائلة والنظام الاجتماعي

كشفت مقابلات د. التومي، التي شملت 30 نزيلا عائدا، عن بنى أسرية مفككة أو مهمشة. فقد كان معظم العائدين قد عبروا عن شعورهم العميق بالهجر والإهمال في الطفولة، وهو ما جعل الشارع - ثم السجن - بديلا لعلاقات الأمان والانتماء التي لم تؤسس بشكل مثالي داخل الأسرة.

وقد أكد بعض النزلاء أن السجن، رغم قسوته، يمنحهم ما لم يجدوه خارج أسواره: الاعتراف، النظام، بما في ذلك نوع من الرعاية. هنا يتجلى السجن لا كعقوبة، بل كحضن بديل، يوفر نوعا من الإشباع العاطفي المزيف ويعوض النقص الذي راكمه الفرد مند مدة.

- العود كسلوك إدماني وهوية بديلة

يرى د. التومي أن العود لا يعكس فقط تكرار الجريمة، انما يشير ذلك إلى تعلق مرضي بدور «المجرم» كمصدر هوياتي، فالعنف يصبح لغة، والخرق القانوني وسيلة لتأكيد وفرض الذات.

يقول أحد النزلاء: "أنا لا أحب السجن، لكني لا أجد نفسي إلا فيه".

إن العود ليس قرارا مدركا، بل سلوك لاواعي ناتج عن فراغ وجودي عميق، وانهيار في صورة الذات والآخر. يعود الفرد لا ليؤذي، إنما ليقول للمجتمع: "أنا هنا، ولو بالضرر".

- اضطراب الهوية والعنف الرمزي

في ظل انعدام الاعتراف الاجتماعي، تنهار صورة الآخر كمصدر للهوية. وهنا تتبلور الجريمة في بعدها الرمزي: كفعل احتجاجي ضد مجتمع لم يعترف بوجود الفرد. بالتعبير العميق لجاك لاكان، فإن العنف يصبح بديلا عن الكلمة؛ اللغة الوحيدة التي بقيت للمنفيين من الحقل الرمزي.

ومنه فإن النزيل العائد، يعيد إنتاج نفس السلوك، لا يعوزه الوعي بالقانون، بل ينقصه موقع ضمن المنظومة؛ مكان يعترف به كذات فاعلة. وحين يغيب هذا الاعتراف، يصبح الانحراف وسيلة لتعويض فقدان الصورة.

- العوامل النفسية والاجتماعية المؤطرة للعود.

كشفت الدراسة قيد التحليل تضافر مجموعة من العوامل وتداخلها في ظاهرة العود على غرار :

ـ تفكك العلاقات الأسرية وهشاشتها.

ـ وجود بنيات وسمات نفسية تتميز بالاندفاع، النرجسية، والتمركز حول الذات.

ـ تدني المستوى الاقتصادي والفقر الشديد، وتحديات البطالة.

ـ مسار مدرسي منقطع أو فشل دراسي.

ـ هشاشة القدرات العلائقية، والإفراط في تأويلات الضحية.

تشير الإحصائيات إلى أن العائدين يظهرون سلوكيات مكررة تشمل السرقة، العنف، وتجارة الممنوعات. كما أن نسبة مهمة منهم سبق لهم الإيداع في مؤسسات حماية الطفولة، ما يكشف عن مسارات تراكمية للهشاشة النفسية والاجتماعية.

- المؤسسة السجنية كفاعل في إنتاج العود

في نفس السياق تؤكد الدراسة أن بعض المؤسسات السجنية، بسبب ظروف الاكتظاظ، وغياب التأطير النفسي والاجتماعي، تنتج العود أكثر مما تمنع حدوثه، فقد تحولت من فضاء للردع والإدماج إلى فضاء لإعادة إنتاج الإقصاء.

وهو ما قد يجعل بعض النزلاء يفضلون السجن على الخارج، ويرون فيه استراحة مؤقتة من مجتمع طارد، لا يضمن لهم لا كرامة ولا دعم كافي.

- نحو مقاربة علاجية-مجتمعية شمولية

كاي دراسة علمية، خلصت الدراسة الى عدة توصيات تحث على نهج خطة متعددة الأبعاد، تعيد الاعتبار للإنسان داخل السجن، ومنها:

ـ صياغة أسس هيكلة المؤسسات السجنية لتصبح فضاءات للعلاج والإدماج.

ـ تعميم المتابعة النفسية داخل السجون.

ـ تقريب الدعم والمواكبة الازمة للأسر الهشة لمنع تكوين شخصيات معادية منذ الطفولة.

ـ تكثيف ندوات توعوية وتاطيرية حول التربية الأسرية السليمة والناجعة.

بناء على ما توصلت اليه الدراسة، فالنزيل العائد ليس حالة خرق قانونية بحتة، بل مرآة تكشف عن خلل عميق في التماسك الاجتماعي تحمل الجريمة رسالة مشفرة تقول: "هذا الفرد لم يجد لنفسه مكانا بينكم، فاختار أن يفرض حضوره بالقوة" وعليه فهو نتاج تنشئة اجتماعية محيطة شكلت ردوده وتمثلاته تجاه الاخرين.

ولهذا، فإن العقوبة، مهما بلغت قسوتها، لا تعالج الجرح، ما لم تلامسه بالفهم والرعاية والاعتراف واعادة تصحيح الافكار وبناء المعتقدات. حتى لا يبقى الصراخ طاغيا حينما تغيب الكلمة القادرة على استجلاء الجوهر النقي للذات. فالعود الإجرامي ليس رغبة في الجريمة، بل ألم يسعى أدن صاغية.

مرجع الدراسة

التومي، م. (2022، 2 سبتمبر). سمات الشخصية المعادية للمجتمع: شخصية النزيل العائد نموذجا. المجلة المغربية لعلم النفس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – عين الشق