ارتياد المقاهي تجنبا للقهر الاجتماعي وعلامة على اضطراب نفسي اجتماعي : قراءة وتحليل لدراسة ذ. محمد التومي (2023)

إن ارتياد المقاهي، في ضوء نتائج دراسة ذ. محمد التومي يتجاوز كونه سلوكا عاديا، إلى اعتباره مؤشرا يعبر عن خلل في التوازن النفسي والاجتماعي للفرد، هنا يصبح من الضروري مقاربة هذا الموضوع من منظور شامل تتداخل فيه مقاربات متعددة الابعاد؛ نفسي، اجتماعي، ثقافي، بيئي...

عرفت المقاهي على مر التاريخ بملتقى الأدباء وارقى المثقفين والعلماء، يتبادلون فيها الأفكار والرؤى حول قضايا فكرية مهمة في ذلك الوقت، وتتخذ فيها قرارات ذات بعد ثقافي واجتماعي وسياسي. كانت اشبه بساحة لاغورا حيث يسائل سقراط جمهور الحاضرين، غير أنها اليوم تحولت إلى فضاءات عامة تستقطب مختلف الفئات من المجتمع لأغراض مغايرة تماما للمكانة التي احتلتها المقاهي منذ ظهورها، حين كانت قبلة لنخبة الموسيقيين وأرقى الفنانين.

تميز العصر الحديث بكثرة هذه الفضاءات وتنوعها، لتصبح اوساط بديلة للترفيه والتنفيس عن الصراع المعيشي للفرد والهروب من ضغوط العمل وصخب التبادلات الاجتماعية الغير صحية. من هذا المنطلق، حاولت المقاربات الأنثروبولوجية والنفسية الاجتماعية مسائلة الظاهرة، لاجل فهم العوامل الكامنة وراء هذا الإقبال، في ظل التوتر العلائقي الذي يتصاعد في زمن طغى فيه التواصل الرقمي بشتى الوسائل والآليات فاصبح يهمن على حياتنا ويدفعنا للانصياع لواقع غير واضح المعالم.

من زاوية نفسية اجتماعية، تناولت دراسة اجراها ذ. محمد التومي استاذ علم النفس بجامعة الحسن التاني بالدارالبيضاء (2023) بمعية نخبة من طلبته، حاول خلالها استجلاء تجليات الاضطراب النفسي والهروب الاجتماعي المرتبط بظاهرة ارتياد المقاهي، مركزا على عينة عشوائية من مرتادي المقاهي بمدينة الدارالبيضاء تكونت من 89 بين النساء والرجال ممن تراوحت اعمارهم بين 18 و60 سنة، معتمدا على أدوات كمية ونوعية دقيقة، تاخد في الاعتبار أسس البحث العلمي في السياق السيكولوجي.

1. المقاهي كفضاء ثالث: بين الحاجة إلى التحرر والواقع الضاغط

ركز بحث ذ. التومي على مفهوم "الفضاء الثالث" كما حدده كل من "هبرماس و أولدنبرغ"، والذي يتمثل في فضاء خارج نطاق البيت والعمل، يوفر للفرد متنفسا شعوريا واجتماعيا من ضغوط الحياة اليومية. في هذا التصور، لا ينظر إلى المقاهي كمجرد أماكن لتناول المشروبات، انها بمثابة فضاءات للتفاعلات الاجتماعية وتحرير الذات من القيود والضغوط العلائقية (الاسرة، العمل...) المكلفة.

لكن هذه الوظيفة الاجتماعية تخفي وجها آخر، حيث قد تتحول المقاهي إلى ملجأ او ملاذ يتماهى فيه الفرد مع واقع معلق، بمعنى ان الفرد لا هو وجد حل لضغوطه المؤرقة ولا هو تخلص منها واستبدلها بواقع جديد مختلف. مما يفقده تدريجيا قدرته على المواجهة، ويكرس لديه الشعور بالعجز والتبلد، وبالتالي البحث عن بدائل تنسيه واقعه المرير ولو مؤقتا، وبالتالي فان هذا البحث المستمر عن الملاذ والمأمن والمتنفس هو ما يجعل من السلوك إدمانا، وغير ناجع لما يؤرق الفرد ومحيطه العلائقي، ويؤزم معه اسرته وتبادلاته الاجتماعية.

2. الإدمان السلوكي: حين يتحول الجلوس في المقهى إلى سلوك قهري

كشفت الدراسة أن %56 من رواد المقاهي يعانون من اضطرابات نفسية متفاوتة (قلق، اكتئاب، رهاب اجتماعي...). هذا المعطى ليس اعتباطيا بل دلالة على ارتباط وثيق بين ارتياد المقاهي والهشاشة النفسية للفرد المرتاد

شملت الدراسة عينة مكونة من 89 فردا، %41.6 منهم نساء و%58.4 رجال، فتتوزعت الدوافع الرئيسية لهذا السلوك، بين الرغبة في الترفيه والتنفيس بنسبة 59.6%، والبحث عن الراحة النفسية أو الهروب من ضغط العلاقات الأسرية والاجتماعية.

صرح %15.1 من المرتادين بأن ارتيادهم المتكرر للمقاهي مرتبط باضطرابات نفسية، و%13.5 بهدف تحقيق منافع نفسية، و%11.2 بدوافع عائلية. من ناحية الاضطراب النفسي الذي قد يعاني منها بعض المرتادين، فقد أظهرت النتائج أن %10 يعانون من الاكتئاب، %8.2 من القلق والتوتر، %4.5 من الرهاب الاجتماعي، %3.3 من اضطرابات في الشخصية، و%17.6 من مشكلات نفسية أخرى.

يعتبر ذ. محمد التومي هذا السلوك من أنواع " الإدمان السلوكي بدون مادة"، حيث لا يتعلق الفرد هنا بمواد مخدرة بل بفعل متكرر (كالجلوس، اللقاء، التدخين...) بهدف إخماد القلق والتنفيس عن معاناة خفية، دون القدرة على مواجهة الواقع والعلاقات الاجتماعية بشكل فعال.

3. الأسرة والضغوط العائلية: الحاضر الغائب في دوافع الارتياد

لا يمكن فصل إدمان ارتياد المقاهي عن الخلفيات الأسرية، حيث تشير نتائج الدراسة إلى أن نسبة كبيرة من الأفراد تلجأ إلى المقاهي هربا من مشاكل عائلية (تفادي الشجارات، الهروب من المسؤوليات، الإيهام بالانشغال...). وهو ما يكشف خللا وظيفيا في عمق العلاقات الاجتماعية للفرد، يؤدي الى ضعف أداء الأسرة لوظيفتها الطبيعية الأساسية كمصدر دعم نفسي وتربوي لا مشروط.

ذلك ان "الوظيفة الإحتضانية للعلاقات الأسرية"، أساسية في صيانة الصحة النفسية وتنظيم السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، حينما تفشل الأسرة في أداء هذه الوظيفة، يصبح البحث عن بدائل، اخرى يدخل ضمنها المقاهي، ومن الملاحظ ان هذا السلوك منتشر بشكل كبير لدى الرجال اكثر من النساء، الا انه في الاونة الآخرة، بدأ ينتشر حتى لدى النساء لأسباب اجتماعية وثقافية تستوجب ابحاث ودراسات عميقة.

4. أزمة علائقية وفراغ وجودي: بين الهشاشة النفسية والاضطراب العلائقي.

أظهرت الدراسة أن جزءا كبيرا من مرتادي المقاهي يلجؤون إليها هربا من فراغ الحياة اليومية، في ظل غياب مشاريع شخصية ناجحة، وبدائل ثقافية واجتماعية قوية، يتعقد الوضع أكثر بثاتير العالم الرقمي، حيث يقضي كثير من مرتادي المقاهي ساعات طويلة في تصفح الشاشات، ما يزيد من شعورهم بالعزلة ويغذي صراعاتهم الداخلية، وهو ما يحثم علينا التمييز بين ارتياد المقاهي كسلوك اعتيادي صحي، وبين الإدمان القهري، الذي يشترط فيه حسب Kimberly S. Young أن يقضي الفرد أكثر من 38 ساعة أسبوعيا في سلوك ادماني ما، أي أكثر من خمس ساعات يوميا.

تبين معطيات الدرلسة أن %75 من العينة يرتادون المقاهي، مقابل %25 لا يفعلون ذلك. من بين المرتادين، %40 يترددون على المقاهي بشكل يومي، و%35 بشكل متقطع، بينما %25 يزورونها في مناسبات نادرة.

5. تمظهرات الاضطراب النفسي في ارتياد المقاهي.

اعتمد ذ. محمد التومي في البحث على أدوات ومقياس نفسية ذات جودة عالية، "مقياس القلق" و "مقياس الاكتئاب" والمعايير التشخيصية ل DSM-5. وأثبتت النتائج ما يلي:

- 30% يعانون من الاكتئاب

- 20% يعانون من القلق

- 9.9% يعانون من الرهاب الاجتماعي

هذه الأرقام تدعونا إلى تجاوز القراءة السطحية للموضوع، والنظر إليه كنتاج لاختلالات عميقة في التماسك النفسي والاجتماعي، اذا ما اعتبرنا المقاهي مفرا من واقع اجتماعي مستعصي من حيث الحلول ويفصح – ولو بشكل غير مباشر – عن اضطرابات داخلية يعتبر التنقيب عليها امر بالغ التعقيد حيث يستلزم حضور مجموعة من العوامل، فردية، اجتماعية، بيئية.

إن ارتياد المقاهي، في ضوء نتائج دراسة ذ. محمد التومي يتجاوز كونه سلوكا عاديا، إلى اعتباره مؤشرا يعبر عن خلل في التوازن النفسي الاجتماعي للفرد، من هنا يصبح من الضروري مقاربة هذا الموضوع من منظور شامل تتداخل فيه مقاربات متعددة الابعاد؛ نفسي، اجتماعي، ثقافي، بيئي...، وتفرض على الفاعلين في مختلف هيئات المجتمع المدني، وصناع السياسات العمومية، تبني استراتيجيات دعم نفسي اجتماعي صونا وحفظا للروابط الاجتماعية الحاضنة للفرد، وتوفير فضاءات اجتماعية وثقافية تستجيب لمستوى التطلعات.

المراجع:

> التومي، محمد. (2023). الإدمان على ارتياد المقاهي بين القهر الاجتماعي والاضطراب النفسي. المجلة الدولية للبحث والنشر العلمي (IJRSP)، المجلد 4، العدد 46، المقال رقم 14. https://doi.org/10.52133/ijrsp.v4.46.14

Young, K. S. (1998). Internet Addiction: The Emergence of a New Clinical Disorder. CyberPsychology & Behavior, 1(3), 237–244. https://doi.org/10.1089/cpb.1998.1.237